يفصلنا شهر عن الذكرى المشؤومة، ذكرى قرار التطبيع مع الكيان الصهيوني، والحصيلة أنها كلما اجتهد المطبعون في التمكين للتطبيع الصهيوني، اشتدت قبضة الاحتلال على الفلسطنيين في غزة والضفة والقدس، وتبخرت آمال السلم والأمن المعقودة على اتفاقيات التطبيع.
وخلافا لما سوقت له الأنظمة العربية المطبعة، بأن التطبيع سيكون لمصلحة الفلسطينيين والدولة وأمن المنطقة، وأن الدول المطبعة ستكون أقدر على دعم الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم، فإن الواقع اليوم خلاف ذلك، بل تضاعفت معاناة الشعب الفلسطيني وازداد الكيان المحتل جرأة وهجوما على ما كان خطا أحمر في الثوابت الفلسطينية.
تهجير حي الشيخ جراح والسيطرة على باب العمود
كان أول تجاوب للكيان الصهيوني مع المطبعين وأول تحية يرد بها على خطوة التطبيع، هي محاولة تهجير سكان حي الشيخ جراح، كبداية لمخطط تهجير باقي الأحياء كحي سلوان… وكذلك السيطرة على مدرجات ساحة باب العمود، كخطوة لتسهيل عمليات الاقتحام للمسجد الأقصى التي حشدت لها جماعات المعبد قطعان المستوطنين، وحددت لها تاريخ 28 رمضان احتفالا بيوم “توحيد القدس” وهو يوم يعتبره الصهاينة عيدا وطنيا لإحياء ذكرى استكمال سيطرة الاحتلال على مدينة القدس، واحتلال الجزء الشرقي منها، وعلى وجه الخصوص البلدة القديمة، وذلك خلال حرب عام 1967. وقد خطط الصهاينة بإحكام لإحداث تحول جذري بهذه المناسبة يغير هوية البلدة القديمة والمسجد الأقصى. الأمر الذي فجر انتفاضة المقدسيين والفلسطينيين وفي مقدمتهم المقاومة وشعوب الأمة، دفاعا عن حي الشيخ جراح وحرمة المسجد الأقصى. وأيضا حشر المطبعين في الزاوية، الذين كانت مواقفهم متخاذلة إن لم تكن متآمرة إزاء ما يحدث في القدس.
العدوان على غزة
وسيزيد من خذلان المطبعين العدوان الصهيوني على غزة، على إثر دفاع المقاومة عن المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، أمام تخاذل الدول العربية والإسلامية والمنتظم الدولي.
فضحايا العدوان على غزة سيبقون سبة وعارا على جبين المطبعين، فقد سقط 232 شهيدا بينهم 65 طفلاً و39 امرأة و1910 مصابين ومن بين الإصابات، 560 طفلا، و380 سيدة، و91 مُسنّا، حسب وزارة الصحة الفلسطينية بالقطاع.
فيما استشهد 28 فلسطينيا، بينهم 4 أطفال، وأُصيب قرابة 7 آلاف بالضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس، خلال مواجهات مع الجيش الإسرائيلي، يستخدم فيها الرصاص الحي والمعدني وقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين.
كما اعتقلت الشرطة الإسرائيلية 1400 شخص، 90% منهم من فلسطينيي الداخل، لكي تناور بالمعتقلين الجدد في أي صفقة لتحرير الأسرى،
ناهيك عن التدمير المادي الذي بلغت خسائره عشرات ملايين الدولارات، حيث هدم 75 مقرا حكوميا ومنشأة عامة تعرضت للقصف الإسرائيلي، وتضررت 68 مدرسة، ومرفقا صحيا، كما تعرضت 3 مساجد للهدم الكلي، بفعل الاستهداف المباشر، و40 مسجدا وكنيسة واحدة تعرضت لدمار بشكل بليغ.
نعرض هذه الأرقام لنكشف حقيقة ووحشية الاحتلال ولنذكر المطبعين بطينة وطبيعة من يطبعون معهم.
تهويد المسجد الأقصى
بعد التطبيع دخل المسجد الأقصى مرحلةً مفصلية من تصفية هويته، بِفَرضِ الطقوس التوراثية فيه، حيث ارتفعت وتيرة الاقتحامات، في ظل صمت عربي مريب، مما يظهر وجود توافقات من الدول المطبعة الموقعة على اتفاقيات أبرهام وما شابهها، التي تقضي بحق اليهود الصهاينة في المسجد الأقصى، وبالتالي السعي لتقسيم المسجد الأقصى، زمانا ومكانا، تحت مظلة التسامح والتعايش بين الأديان. مع العلم أن الصهاينة يهدفون إلى هدمه وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.
فقبيل يوم عرفة اقتحمت الشرطة الإسرائيلية مع 1600 مستوطن حرمه، وفي شهري شتنبر وأكتوبر أكثر من عشرة آلاف متطرف ومتطرفة اقتحموا المسجد الأقصى، ويتم الاقتحام شبه اليومي على فترتين صباحية وبعد صلاة الظهر، عبر باب المغاربة في الجدار الغربي للمسجد بتسهيلات ومرافقة من الشرطة الإسرائيلية.
وأصبحت الاقتحامات مصحوبة بطقوس توراتية خاصة بعد قرار محكمة الصلح، التي أقرت أن “وجود مصلين يهود في الحرم القدسي لا يمكن تجريمه ما دامت صلواتهم صامتة” وهذه خطوة خطيرة تمهد للتقسيم. ولم تقدم الدول المطبعة أي خطوة لحماية حرمة المسجد الأقصى
اضطهاد المقدسيين
لم يجلب التطبيع الأمن والأمان للفلسطينيين ولا للمقدسيين كما زعموا، ناهيك عما ذكر سابقا من انتهاكات في حق الفلسطينيين، فالقدس ازدادت معاناة أهلها بشكل يومي، وقد رُصد خلال شهر أكتوبر فقط (51) حادثا لإطلاق نار واعتداء مباشر من قوات الاحتلال الإسرائيلي في أحياء القدس المحتلة. أسفر ذلك عن إصابة 70 مواطنًا، بجروح جراء إصابتهم بالرصاص وقنابل الغاز والصوت المباشر. كما اعتدت قوات الاحتلال على أكثر من 97 آخرين بالضرب، فيما سجلت إصابة العشرات بحالات اختناق. كما نفذت قوات الاحتلال (287) عملية اقتحام لبلدات وأحياء القدس، نفذت خلالها 240 حالة اعتقال، ضمنهم 8 نساء على الأقل وعدد كبير من الأطفال. وفي نفس الشهر نفذت قوات الاحتلال 23 عملية هدم وتوزيع إخطارات، أسفرت عن تدمير 8 منازل منها 4 ذاتيا.
وهنا نسائل أصدقاء إسرائيل هل يتحملون العيش في مثل هذه الظروف، لو قدر لهم أن يكونوا مكان الفلسطينيين؟ أم سيستسلمون ويذعنون للمحتل من أجل جلب العافية والأمن والأمان. ومن المفارقات العجيبة أن تجد من هؤلاء من يضيق صدره بوجود من لم يحمل عليه سلاح ولم يحتل أرضه ولا يضطهده، لا لشيء إلا لشبهة أصله وعرقه، ويدق طبول الحرب من أجل ذلك ويستعين بالمحتل الصهيوني للاستقواء، رغم أنهم قلة وصوت نشاز داخل المجتمع المغربي الموحد.
جرف مقابر المسلمين
حتى المقابر والأموات لم يسلموا من الاعتداءات الصهيونية في ظل التطبيع، فقد تم تجريف المقابر وتحويلها إلى مرافق عامة كما حدث مؤخراً في المقبرة اليوسفية التي تضم عدداً من قبور الصحابة، والجيش الأردني والعراقي منذ عام 1967،
وبدأت أعمال التجريف الصهيونية، بعد أن استجابت ما تُسمى بـ “المحاكم الصهيونية” لطلب بلدية الاحتلال في القدس، وما تعرف بـ “سلطة الطبيعة”، باستئناف أعمال التجريف. وبالمقابل زرع الاحتلال 7000 قبر وهمي خلال سنة لتحريف التاريخ وتهويد القدس.
محنة الأسرى
أما الأسرى فقد تضاعفت محنتهم بعد عملية التحرر البطولية من سجن جلعوت، بخطة تستهدف العقاب الجماعي للأسرى، وشملت الخطة نقل المئات من الأسرى من سجونهم الحالية وتفريقهم بين سجون أخرى، ومنع الزيارات العائلية، إلى جانب عدد من التدابير الأخرى التي تهدف إلى جعل حياتهم بائسة، فنحو 4500 أسير ومعتقل أمني حاليًا يعانون في سجون الاحتلال من التمييز ضدهم مقارنة بالسجناء الآخرين ومنهم 2500 يقضون أحكامًا بالسجن، و1474 ينتظرون المحاكمة أو ما زالوا قيد المحاكمة، و500 معتقل من دون محاكمة ولا توجيه اتهامات ولا إمكانية للدفاع عن أنفسهم، أو ما يسمى بالاعتقال الإداري والذي يضطر الأسرى إلى الدخول في إضراب عن الطعام لانتزاع حرياتهم كما هو حاصل اليوم، حيث يواصل أربعة أسرى لدى إسرائيل إضرابهم المفتوح عن الطعام رفضاً لاعتقالهم الإداري، وأقدمهم إسماعيل علي المضرب منذ 100 يوماً على التوالي، وحياتهم اليوم مهددة في ظل صمت دولي رهيب.
تهديد أمن المنطقة
نقلت صحيفة “الرأي اليوم” عن صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أن ملك المغرب، بعث رسالة للرئيس الإسرائيلي ردا على رسالته التي نقلها وزير خارجيته الذي زار المغرب، أعرب فيها عن أمله بأن “تشجع العلاقات الإسرائيلية المغربية سلاما إقليميا واسعا”. وقال في الرسالة: “أنا راض عن الخطوات المتخذة لاستئناف العلاقات بين بلدينا وأعتقد أننا سنحافظ على هذا الزخم لدفع آفاق السلام لجميع شعوب المنطقة”.
هذا الأمل في السلام يقتله الكيان المحتل يوما بعد يوم، لأن الصهاينة لا يعرفون السلام، فالشعب الفلسطيني بعد التطبيع ازدادت مظلوميته ومحنته كما رأينا فيما سبق، فلم ينعم أطفاله ونساؤه ورجاله بالأمن ولا السلام.
وحتى شعوب المنطقة لن يتوانى الكيان الصهيوني عن إشعال نار الفتنة فيها ودق طبول الحرب بينها، لأنه الكاسب الأكبر من النزاعات والصراعات لبيع السلاح واللعب على التفرقة والتحالفات لتحقيق مشروعه الصهيوني، الذي ليس في قاموسه مفهوم السلام. فحيثما وجدت قلاقل في بلد من بلدان المنطقة فاعلم أن هناك أيادٍ صهيونية تعمل في الخفاء ومن وراء الستار.
ولقد سبق اتفاق التطبيع توتر في جنوب المغرب، كما صاحبه توتر في العلاقات المغربية الجزائرية بشكل تصاعدي وغير مسبوق مما يطرح علامات الاستفهام حول أسبابه الخفية والأيادي التي تؤججه من وراء الستار. فلا يعقل أن تقف الصهيونية مكتوفة الأيادي دون أن تمارس ضغوطا على الدول التي لم تطبع بعد، حتى يطبع حكامها ضدا عن إرادة شعوبهم. كما أنها لن تقبل باستقرار المنطقة المغاربية فضلا عن وحدتها، وهي التي تسعى لتجزيء المجزأ وتقسيم المقسم من أوطاننا.
الصهيونية تتنكر للوحدة الترابية
إن الخذلان الأكبر عندما يتنكر الكيان الصهيوني لمغربية الصحراء، ويتباطأ الطرف الأمريكي في اتخاذ إجراءات عملية تترجم اعترافه بمغربية الصحراء، وهو الموضوع الذي سوق به المطبعون جريمة التطبيع داخل المغرب.
حيث صرح المسؤول عن مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط لوكالة الأنباء الإسبانية “إيفي”، على أن الموقف الإسرائيلي الرسمي من قضية الوحدة الترابية لا يخرج عن دعم مسلسل المفاوضات فقط، مما يعني أنها تضع المغرب وباقي أطراف النزاع على قدم المساواة دون اتخاذ أي قرار داعم لسيادة المغرب على الصحراء. وهذا يتماشى والله مع الطبيعة الحربائية للكيان المحتل، فأي تحول في الموقف الجزائري من التطبيع سيصاحبه تراجع في الموقف الصهيوني وكذا الأمريكي.
خذلان وهرولة
في ظل هذه الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني والتهديدات الصهيونية الخطيرة على القدس والمسجد الأقصى المبارك، والغموض الذي يكتنف مواقف “الحلفاء” من الوحدة الترابية، نرى استمرار الدولة في دعمها للكيان الصهيوني بل يهرولون من أجل التمكين للتطبيع في مختلف المجالات.
إن تفاعل الحاكمين في المغرب مع ما يجري في القدس، يبدو أنهم قد أعفوا أنفسهم من مسؤولية الدفاع عنه، فلجنة القدس كأنها طبعت مع الوضع وأصبحت معاقة لا تحرك ساكنا إزاء ما يهدد القدس والمقدسيين والمسجد الأقصى، وبالمقابل يسير التطبيع المغربي الصهيوني بوتيرة سريعة.
مما يبرز وجود اختراق قوي لمؤسسات الدولة الحاكمة، واختيار استراتيجي وتاريخي للتعاون مع الكيان الصهيوني، ليس وليد اليوم وليس بسبب الوحدة الترابية، بل يظهر على السطح كلما سنحت الفرصة لذلك كما حدث في 1996 والآن، ويعمل في الخفاء كلما اقتضت الحكمة ذلك، كما حدث قبل 1996 وبعد إغلاق مكتب الاتصال في 2000.
الشعب يخذل المطبعين
إذا كانت مواقف الأنظمة متخاذلة فإن مواقف الشعوب ستبقى مناصرة للقضية وضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو ما أكده الشعب المغربي وقواه الحية من خلال توحيد صفوفه داخل الجبهة وإطارات مجتمعية ضد التطبيع، وتنظيمه لعدد من الفعاليات في مختلف المدن المغربية دعما للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة وضد الكيان الصهيوني وضد التطبيع معه.
رغم الدعاية الكبيرة لمسلسل التطبيع، ورغم التدليس والتضليل الذي صاحب عملية التسويق له خاصة بتوظيف قضية الوحدة الترابية، لتكميم الأفواه وترهيب الناس من الخروج عن الإجماع، فإن الحيلة لم تنطل على عموم المغاربة الذين كان لهم موقف الرفض.
وكم كان مخزيا إنزال السلطة لجحافل من القوات لمواجهة المغاربة المحتجين في الشارع للتنديد بالتطبيع والعدوان على غزة وكل فلسطين، حيث أصيب بعضهم إصابات بليغة، ومن الخزي كذلك منع المسيرة المليونية المزمع تنظيمها والمنددة بالتطبيع وبالعدوان على غزة، التي دعت إليها الجبهة وعدد من الإطارات الداعمة لفلسطين، والتي كانت ستكون بحق استفتاء شعبيا على التطبيع.
أمام هذه المواقف التضامنية والرافضة للتطبيع وأمام العدوان الصهيوني على غزة بقي النظام في حرج ولم يخفف من الاحتقان إرسال مساعدات طبية إلى غزة أو استضافة قيادة حماس في شبه إقامة إجبارية تحدد طبيعة المتواصلين معهم، كمن يلتمس صكوك الغفران لتبييض جريمة التطبيع، ولتمويه على الشعب.
سيبقى التطبيع خيانة وجريمة وخزي وندامة، ولعنة تحل على من ارتضاه. وستبقى خدمة فلسطين شرفا للأحرار لشرف القضية الفلسطينية وشرف بيت المقدس وشرف أهل بيت المقدس، مستبشرين بوعد الآخرة ولا راد لوعده.
بقلم عبد الصمد فتحي